قيمة الجامعة في تنمية الشعوب
بقلم: د. خليفة قعيد
فتحت اتفاقية التوأمة المبرمة يوم 10 جوان 2024 بين جامعة الوادي وجامعة سيرت الليبية الباب واسعا لانضمام 5 جامعات ليبية جديدة إلى 5 جامعة جزائرية و5 جامعات تونسية سبق وأن وقعت فيما بينها على اتفاقية 5+5 لتكون المحصلة هي ثالوث خماسي لـ15 جامعة من ثلاثة بلدان شقيقة مشتركة الحدود.
يا ترى، ما هي القيمة المضافة التي تستطيع نخب هذه الجامعات من علماء وباحثين تقديمها لتنمية شعوب هذه البلدان؟
سؤال وجيه! ولكن قبل الإجابة عنه، هيا بداية نستقرئ التاريخ القديم لعله يكشف لنا عن مدى العلاقة العريقة المتبادلة، على الأقل، بين هذه الشعوب انطلاقا من منطقتين، على سبيل المثال لا الحصر، هما وادي سوف الجزائرية وسرت الليبية.
أكدت دراسات علمية تاريخية وأنثربولوجية أن شعوب المنطقة بنوا في عصر ما قبل التاريخ علاقات تجارية واقتصادية وثقافية واجتماعية. ففي العصر النيوليتي البعيد بنحو 6000 سنة قبل الميلاد، أقام الإنسان الأول لشعب “بير العضل” الذي كان موجودا بالضاحية الشرقية الشمالية لمنطقة وادي سوف، علاقات تجارية واقتصادية واجتماعية مع شعب خليج سيرت الليبية كما تبينه الآثار التي عثر عليها وكتب عنها الباحثان “جون موريل” و”جوزيف بابو” في دراستهما المنشورة في مجلة “عصر ما قبل التاريخ” (العدد3-4 مارس-أفريل 1951). فقد أكد هذان الباحثان بأن هذه العلاقات المتينة تبين أن مشهد أشكال وتنوّع الحياة في المغرب العربي ينبغي أن يتأمّله دارس عصر ما قبل التاريخ لكي يعرف تزامن الثقافات التي تطورت بشكل متساو خلال الألفيات الأخيرة التي سبقت عصرنا ويدرك بأن حضارات أفريقيا الشمالية تتجاور وتتطور بالتوازي دون أن تختلط أو تزول.
الحقيقة، أنه منذ ذلك الزمن الموغل في القدم والعلاقات بين شعوب المنطقة للبلدان الثلاث لم تنقطع وظلت تنشط حينا وتخبو حينا آخر، ولكنها في كل الأحوال بقيت مستمرة. فقد عانت هذه الشعوب من ويلات المستعمر الفرنسي والإيطالي الغاشم كما ناضلت وتعاونت فيما بينها وكافحته جنبا إلى جنب بالسلاح والسياسة حتى نالت حريتها. وبعد الاستقلال، تعززت هذه العلاقات بإبرام اتفاقيات مشتركة على مستوى القمة وعززتها اتفاقيات أخرى على مستوى القاعدة لا سيما بين الولايات الحدودية، خاصة الجزائرية-التونسية، تمتينا للتعاون وتعزيزا لروح الأخوة وحسن الجوار.
لا مبالغة إذاً، عندما نقول بأن هذه العلاقات القوية خاصة على المستوى القاعدي الشعبي تتجلى، عندنا، في استمرار تقوية العلاقات التجارية وروابط القربى وحسن الجوار مثل إحياء بعض الاحتفالات الشعبية في وادي سوف على غرار حضرة الفرجان على الحدود الشرقية من تراب الولاية حيث يهب إليها، في كل سنة من موسم الربيع، فصائل من قبيلة فرجان ليبيا وتونس والجزائر. وقس على ذلك عروش وقبائل أخرى لها احتفاليات طقوسية مشتركة على مستوى حدود هذه البلدان.
في الواقع، أنه رغم متانة هذه العلاقات المتبادلة بين هذه الشعوب، فإنها ظلت بحاجة إلى حلقة ربط صلبة بين قمتها على مستوى الحكومات وقاعدتها على المستوى الشعبي ما جعلها تفتقد إلى قوة الاقتراح ووجاهة الطرح والتحدي نحو تأسيس تكتل قوي يجمع بين البلدان الثلاثة.
لعل القيادات السياسية الحالية والكوادر العلمية في الجزائر وتونس وليبيا تنبهت وبجدية إلى ضرورة تدارك هذه الحلقة المفقودة القائمة، بداهة، على أهمية إقحام الطبقة العالمة من النخب الجامعية للإسهام في مخططات التنمية العلمية والتكنولوجية المستدامة لشعوب هذه البلدان؛ الأمر الذي يرسي إستراتيجية واضحة المعالم وقواعد مشتركة متماسكة لا تهتز باهتزاز الأهواء وتغير السياسات ما يجعل صوت هذا التكتل الثلاثي قويا ومُوحّدا ومؤثرا في المحافل الدولية.
إن الدفع بالنخب والطاقات العلمية الجامعية للدول الثلاث في معترك التنمية يعني دعم جهود هذه الدول ومؤسساتها وجماعاتها المحلية لإنجاز مشروع تكتل جزائري تونسي ليبي قائم على العلم والعمل والاستقلالية ويقفز بمستوى التطور الحالي لهذه الدول إلى مستوى متقدم من شأنه ضمان تنمية مستدامة ومناعة قوية ضد المؤامرات والدسائس التي تحاك هنا وهناك وتستهدف تمزيق الجسد الواحد في عالم ظالم مشحون بالصراعات والحروب ولا مكان فيه للشعوب المستضعفة.
طالما أن الأمم لا تقوم إلا على طبقاتها العالمة ونخبها الجامعية على الخصوص، فإذاً، لا غضاضة، من إقحام هذه النخب في محك التنمية متسلحة بالعلم والتكنولوجيا؛ لأنه لابد من التعويل على أنفسنا، ولأنه أيضا، لا يمكننا فتح مناقصات دولية لاستيراد علماء ونخب جامعية من خارج بلداننا لحل مشاكلنا التنموية التي لا أحد يعرف حقيقتها مثلنا.
وبالفعل، تستطيع نخب جامعاتنا وعلماؤها وباحثوها أن يسهموا في التنمية المشتركة من خلال إرساء القواعد العلمية والبحثية في البيئة الجامعية الخلاقة مثلما نتوسمه في حالة التجسيد الميداني لبنود اتفاقيات التوأمة المنتظرة لـ15 جامعة جزائرية وتونسية وليبية. بهذا فقط، نستطيع بعث مرتكزات تنمية مشتركة ومستدامة لصالح الجيل الحالي والأجيال القادمة.. تنمية قائمة على المعرفة والعلم والتكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي بغية الوصول ببلداننا إلى مصاف الدول المتقدمة.